فصل: شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 الآية رقم ‏(‏105‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ‏}‏

يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم، ومخبراً لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس، سواء كان قريباً منه أو بعيداً‏.‏ قال ابن عباس في تفسير هذه الآية، يقول تعالى‏:‏ إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال، ونهيته عنه من الحرام، فلا يضره من ضل بعده إذا عمل بما أمرته به، وهكذا قال مقاتل بن حيان‏.‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم‏}‏ نصب على الإغراء ‏{‏لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى اللّه مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏ أي فيجازي كل عام بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر‏.‏ وليس فيها دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان فعل ذلك ممكناً، وقد قام أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه فحمد اللّه واثنى عليه، ثم قال‏:‏ أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم‏}‏ وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الناس إذا رأو المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عزَّ وجلَّ أن يعمهم بعقابه ‏"‏رواه أحمد وأصحاب السنن وابن ماجة‏"‏قال الترمذي عن أبي أمية الشعباني قال‏:‏ أتيت أبا ثعلبة الخشني، فقلت له‏:‏ كيف تصنع في هذه الآية‏؟‏ قال‏:‏ أية آية‏؟‏ قلت‏:‏ قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم‏}‏ قال‏:‏ أما واللّه لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض عن الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم‏)‏، وفي رواية قيل‏:‏ يا رسول اللّه أجر خمسين رجلاً منا أو منهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بل أجر خمسين منكم‏)‏

وروى الرازي عن أبي العالية عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا عليك أنفسكم لا يضركم من ضل‏}‏ الآية، قال‏:‏ كانوا عند عبد اللّه بن مسعود جلوساً فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه فقال رجل من جلساء عبد اللّه‏:‏ ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر، فقال آخر إلى جنبه‏:‏ عليك بنفسك، فإن اللّه يقول‏:‏ ‏{‏عليكم أنفسكم‏}‏ الآية، قال‏:‏ فسمعها ابن مسعود، قال‏:‏ مه لم يجيء تأويل هذه بعد، إن القرآن أنزل حيث أنزل، ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومنه آية قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه أي تأويلهن عند الساعة وما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلبوكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعاً، ولم يذكق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا، وإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعاً، وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه، وعند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية رواه ابن جرير، وقال ابن جرير تلا الحسن هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم‏}‏ فقال الحسن‏:‏ الحمد للّه بها، والحمد للّه عليها، ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جنبه منافق يكره عمله‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت‏.‏

 الآية رقم ‏(‏106 ‏:‏ 108‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ‏.‏ فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ‏.‏ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين ‏}‏

اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز، قيل إنه منسوخ، وقال آخرون وهم الأكثرون بل هو محكم، ومن ادعى نسخه فعليه البيان ‏"‏قاله ابن جرير رحمه اللّه تعالى‏"‏فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان‏}‏ هذا هو الخبر لقوله شهادة بينكم فقيل‏:‏ تقديره شهادة اثنين شهادة اثنين حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه‏.‏ وقيل‏:‏ دل الكلام على تقدير‏:‏ أن يشهد اثنان، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذوا عدل‏}‏ وصف الإثنين بأن يكونا عدلين، وقوله‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ أي من المسلمين، قاله الجمهور‏.‏ قال ابن عباس رضي اللّه عنه في قوله ‏{‏ذوا عدل منكم‏}‏، قال‏:‏ من المسليمن‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وقال آخرون عني ذلك ‏{‏ذوا عدل منكم‏}‏ أي من أهل الموصي، وقوله‏:‏ ‏{‏أو آخران من غيركم‏}‏ قال ابن ابي حاتم، قال ابن عباس في قوله ‏{‏أو آخران من غيركم‏}‏ قال‏:‏ من غير المسلمين، يعني أهل الكتاب ‏"‏وروي عن شريح وعكرمة وقتادة والسدي ومقاتل نحو ذلك‏"‏وعلى ما حكاه ابن جرير عن عكرمة وعبيدة في قوله‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ أن المراد من قبيلة الموصي، يكون المراد ههنا ‏{‏أو آخران من غيركم‏}‏ أي من غير قبيلة الموصي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن أنتم ضربتم في الأرض‏}‏ أي سافرتم ‏{‏فأصابتكم مصيبة الموت‏}‏ وهذان  شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين أن يكون ذلك في سفر، وأن يكون في وصية، كما قال ابن جرير عن شريح‏:‏ لا تجوز شهادة شهادة اليهود والنصارى إلا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في الوصية، وروي نحوه عن الإمام أحمد بن حنبل وخالفه الثلاثة، فقالوا‏:‏ لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين، وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضاً‏.‏

وقال ابن جرير عن الزهري قال‏:‏ مضت السنة أن لا تجوز شهادة الكافر في حضر ولا سفر، إنما هي في المسلمين‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ نزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أول الإسلام والأرض حرب، والناس كفار، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض وعمل الناس بها، رواه ابن جرير‏.‏ وفي هذا نظر واللّه أعلم‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ اختلف في قوله‏:‏ ‏{‏شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم‏}‏ هل المراد به أن يوصي إليهما أو يشهدهما‏؟‏ على قولين أحدهما ‏:‏ أن يوصي إليهما، سئل ابن مسعود رضي اللّه عنه عن هذه الآية قال‏:‏ هذا رجل سافر ومعه مال فأدركه قدره، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته وأشهد عليهما عدلين من المسلمين، والقول الثاني ‏:‏ أنهما يكونا شاهدين، وهو ظاهر سياق الآية الكريمة، فإن لم يكن وصي ثالث معهما اجتمع فيهما الوصفان الوصاية والشهادة، كما في قصة تميم الداري وعدي بن بداء كما سيأتي ذكرها إن شاء اللّه وبه الوفيق‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تحبسونهما من بعد الصلاة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني صلاة العصر، وقال الزهري‏:‏ يعني صلاة المسلمين، وقال السدي عن ابن عباس‏:‏ يعني صلاة أهل دينهما، والمقصود أن يقام هذان الشاهدان بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم، ‏{‏فيقسمان بالله‏}‏ أي فيحلفنان باللّه‏}‏ أي فيحلفان باللّه ‏{‏إن ارتبتم‏}‏ أي إن ظهرت لكم منهما ريبة أنهما خانا أو غلَّا فيحلفان يحينئذ باللّه ‏{‏لا نشتري به‏}‏ أي بأيماننا ‏{‏ثمنا‏}‏ أي لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة ‏{‏ولو كان ذا قربى‏}‏ أي ولو كان المشهود عليه قريباً لنا لا نحابيه، ‏{‏ولا نكتم شهادة اللّه‏}‏ اضافها إلى اللّه تشريفاً لها وتعظيماً لأمرها‏.‏

‏{‏إنا إذاً لمن الآثمين‏}‏ أي فعلنا شيئاً من ذلك من تحريف الشهادة أو تبديلها أو تغييرها أو كتمها بالكلية، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن عثر على أنهما استحقا إثماً‏}‏ أي فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين أنهما خانا أو غلّا شيئاً من المال الموصى به إليهما وظهر عليهما بذلك ‏{‏فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عيهم الأوليان‏}‏ أي متى تحقق بالخبر الصحيح خيانتهما، فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة وليكونا من أولى من يرث ذلك المال ‏{‏فيقسمان باللّه لشهادتنا أحق من شهادتما‏}‏، أي لقولنا إنهما خانا أحق وأصح واثبت من شهادتهما المتقدمة، ‏{‏وما اعتدينا‏}‏ أي فيما قلنا فيهما من الخيانة ‏{‏إنا إذا لمن الظالمين‏}‏ أي إن كنا قد كذبنا عليهما، وهذا التحليف للورثة والرجوع إلى قولهما والحالة هذه كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لوث في جانب القاتل، فيقسم المتسحقون على القاتل فيدفع برمته إليم كما هو مقرر في باب القسامة من الأحكام‏.‏

وقد روي عن ابن عباس قال‏:‏ خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري، وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدمنا بتركته، فقدوا جاما من فضة مخوصاً بالذهب، فأحلفهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ووجدوا الجام بمكة، فقيل‏:‏ اشتريناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي، فحلفا باللّه لشهادتنا أحق من شهادتهما، وإن الجام لصاحبهم، وفيهم نزلت‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم‏}‏ ‏"‏أخرجه الترمذي وابو داود، وقال الترمذي ‏:‏ حسن غريب‏"‏الآية، ومن الشواهد لصحة هذه القصة ما رواه أبو جعفر بن جرير عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا‏؟‏‏؟‏ هذه، قال فحضرته الوفاة ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، قال‏:‏ فقدما الكوفة، فأتيا الأشعري يعني أبا موسى الأشعري رضي اللّه عنه، فأخبراه، وقدما الكوفة بتركته ووصيته، فقال الأشعري‏:‏ هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ فأحلفهما بعد العصر، باللّه ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيّرا، وإنها لوصية الرجل وتركته، قال‏:‏ فأمضى شهادتهما، فقوله‏:‏ هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الظاهر - واللّه أعلم - أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعدي بن بداء، وقد ذكروا أن إسلام تميم بن أوس الداري رضي اللّه عنه كان سنة تسع من الهجرة، فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخراً يحتاج مدعي نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام، واللّه أعلم‏.‏

وقال السدي في الآية ‏{‏يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدككم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم‏}‏ قال‏:‏ هذا في  الوصية عند الموت يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ماله وما عليه، قال‏:‏ هذا في الحضر ‏{‏أو آخران من غيركم‏}‏ في السفر ‏{‏إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت‏}‏ هذا الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس، فيوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه فيقبلان به، فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا ما لصاحبهم تركوهما، وإن ارتابوا رفعوهما إلى السلطان، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان باللّه إن ارتبتم‏}‏، قال ابن عباس رضي اللّه عنه‏:‏ كأني أنظر إلى العلجين حين انتهي بهما إلى ابي موسى الأشعري في داره، ففتح الصحيفة، فأنكر أهل الميت وخوفوهما، فأراد أبو موسى أن يستحفلهما بعد العصر، فقلت‏:‏ إنهما لا يباليان صلاة العصر ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما فيحلفان باللّه لا نشتري به ثمناً قليلاً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة اللّه إنا إذاً لمن الآثمين‏:‏ أن صاحبهم لهذا أوصى، وأن هذه لتركته، فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا‏:‏ إنكما إن كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ولم نجز لكما شهادة وعاقبتكما، فإذا قال لهما ذلك فإن ‏{‏ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها‏}‏ رواه ابن جرير، وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية فإن ارتب في شهادتهما استحلفا - بعد العصر - بالله ما اشترينا بشهادتنا ثمناً قليلاً، فإن اطلع الأولياء على ان الكافرين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا باللّه أن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لمن نعتد، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن عثر على أنهما استحقا إثما‏}‏ يقول‏:‏ إن اطلع على أن الكافرين كذبا ‏{‏فآخران يقومان مقامهما‏}‏ يقول من الأولياء، فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد، فترد شهادة الكافرين‏:‏ وتجوز شهادة الأولياء ‏"‏ذكره ابن جرير رحمه اللّه‏"‏وهكذا قرر هذا الحكم على مقتضى هذه الآية غير واحد من أئمة التابعين والسلف رضي الله عنهم، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها‏}‏ أي شرعية هذه الحكم على هذا الوجه المرضي من تحليف الشاهدين الذميين إن استريب بهما أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه المرضي‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم‏}‏ أي يكون الحامل لهم على الإتيان بها على وجهها هو تعظيم الحلف بالله مراعاة جانبه وإجلاله، والخوف من الفضيحة بين الناس، وإن ردت اليمني على الورثة، فيحلفون ويستحقون ما يدعون، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏واتقوا اللّه‏}‏ أي في جميع أموركم، ‏{‏واسمعوا‏}‏ أي وأطيعوا، ‏{‏واللّه لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ أي الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏109‏)‏

‏{‏ يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أُجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ‏}‏

هذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلهم إليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون‏}‏ وقول الرسل ‏{‏لا علم لنا‏}‏ قال مجاهد والحسن البصري والسدي‏:‏ إنما قالوا ذلك من هو ذلك اليوم، وقال الأعمش عن مجاهد يفزعون فيقولون ‏{‏لا علم لنا‏}‏، وقال السدي‏:‏ نزلوا منزلاً ذهلت فيه العقول فلما سئلوا قالوا‏:‏ ‏{‏لا علم لنا‏}‏ ثم نزللوا منزلاً آخر، فشهدوا على قومهم، وقال ابن عباس ‏{‏يوم يجمع اللّه الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب‏}‏ يقولون للرب عزَّ وجلَّ‏:‏ لا علم لنا إلا علم أنت أعلمتنا به‏؟‏‏؟‏، رواه ابن جرير واختاره على هذه الأقوال ولا شك أنه قول حسن، وهو من باب التأدب مع الرب جلَّ جلاله‏:‏ أي لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء، فنحن وإن كنا أجبنا وعرفنا من أجابنا ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره لا علم لنا بباطنه، وأنت العليم بكل شيء، المطلع على كل شيء، فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلاعلم، فإنك ‏{‏أنت علام الغيوب‏}‏

 الآية رقم ‏(‏110 ‏:‏ 111‏)‏

‏{‏ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبريء الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ‏.‏ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ‏}‏

يذكر تعالى ما منَّ به على عبده ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام مما أجراه على يديه من المعجزات وخوارق العادات، فقال‏:‏ ‏{‏اذكر نعمتي عليك‏}‏ أي في خلقي إياك من أم بلا ذكر، وجعلي إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء، ‏{‏وعلى والدتكم‏}‏ حيث جعلتك لها برهاناً على براءتها مما نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة، ‏{‏إذ ايدتك بروح القدس‏}‏، وهو جبريل عليه السلام، وجعلتك نبياً داعياً إلى اللّه في صغرك وكبرك، فأنطقتك في المهد صغيراً فشهدت ببراءة أمك من كل عيب، واعترفت لي بالعبودية، وأخبرت عن رسالتي إياك، ودعوت إلى عبادتي‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏تكلم الناس في المهد وكهلاً‏}‏ أي تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك، وضمن ‏{‏تكلم‏}‏ تدعو، لان كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذ علمتك الكتاب والحكمة‏}‏ أي الخط والفهم، ‏{‏والتوراة‏}‏ وهي المنزلة على موسى الكليم، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذ تخلف من الطين كهيئة الطير بإذني‏}‏ أي تصورة وتشكله على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك، فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني، أي فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك، فتكون طيراً ذا روح تطير بإذن الله وخلقه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتبرىء الأكمه والأبرص بإذني‏}‏ قد تقدم الكلام عليه في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذ تخرج الموتى بإذني‏}‏ أي تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته وإرادته ومشيئته، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتههم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين‏}‏ أي واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنك حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من اللّه إليهم،، فكذبوك، واتهموك بأنك ساحر، وسعوا في قتلك وصلبك، فنجيتك منهم، ورفعتك إليّ، وطهرتك من دنسهم، وكفيتك شرهم، وهذا يدل على أن هذا الإمتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السماء، أو يكون هذا الإمتنان واقعاً يوم القيامة، وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة، وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع اللّه عليها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي‏}‏ وهذا ايضاً من الإمتنان عليه، عليه السلام بأن جعل له أصحاباً وأنصاراً، ثم قيل‏:‏ إن المراد نبهاذ الوحي وحي إلهام كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأوحينا إلى أم موسى أن ارضعيه‏}‏ الآية، وهو وحي إلهام بلا خلاف، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏واوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً‏}‏ الآية، وهكذا قال بعض السلف في هذه الآية ‏{‏وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون‏}‏، أي ألهموا ذلك فامتثلوا ما أهلموا، قال الحسن البصري‏:‏ ألهمهم الله عزَّ وجلَّ ذلك‏.‏ وقال السدي‏:‏ قذف في قلوبهم ذلك، ويحتمل أن يكون المراد‏:‏ وإذا أوحيت إليهم بواسطتك فدعوتهم إلى الإيمان باللّه وبرسوله، واستجابوا وانقادوا وتابعوك، فقالوا‏:‏ ‏{‏آمنا وأشهد بأننا مسلمون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏112 ‏:‏ 115‏)‏

‏{‏إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ‏.‏ قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ‏.‏ قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين ‏.‏ قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ‏}‏

هذه  قصة المائدة، وإليها تنسب السورة، فيقال سورة المائدة، وهي مما امتن اللّه به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها، فأنزل الله آية باهرة وحجة قاطعة، وقد ذكر بعض الأئمة أن قصتها ليست مذكروة في الإنجيل ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين، فاللّه أعلم، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال الحواريون‏}‏ وهم أتباع عيسى عليه السلام ‏{‏يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك‏}‏‏:‏ هذه قراءة كثيرين، ‏{‏أن ينزل علينا مائدة من السماء‏}‏ والمائدة هي الخوان عليه طعام، وذكر بعضهم أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم فسألوه أن ينزل عليهما مائدة كل يوم يقتاتون بها، ويتقوون بها على العبادة ‏{‏قال اتقوا اللّه إن كنتم مؤمنين‏}‏ أي فأجابهم المسيح عليه السلام قائلاً لهم‏:‏ اتقوا الله ولا تسألوا هذا فعساه أن يكون فتنه لكم، وتوكلوا على اللّه في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين ‏{‏قالوا نريد أن نأكل منها‏}‏ أي نحن محتاجون إلى الأكل منها ‏{‏وتطمئن قلوبنا‏}‏ إذا شاهدنا نزولها رزقاً لنا من السماء ‏{‏ونعلم أن قد صدقتنا‏}‏ أي ونزداد إيماناً بك وعلماً برسالتك ‏{‏ونكون عليها من الشاهدين‏}‏ أي ونشهد أنها آية من عند اللّه، ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به، ‏{‏قال عيسى ابن مريم اللّهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا‏}‏، قال السدي‏:‏ أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا، وقال سفيان الثوري‏:‏ يعني يوماً نصلي فيه وقال قتادة، اراداوا أن يكون لعقبهم من بعدهم، وعن سلمان الفارسي‏:‏ عظة لنا ولمن بعدنا، وقيل‏:‏ كافية لأولنا وآخرنا ‏{‏وآية منك‏}‏ أي دليلاً تنصبه على قدرتك على الأشياء وعلى إجابتك تلدعوتي فيصدقوني فيما أبلغه عنك، ‏{‏وأرزقنا‏}‏ أي من عندك رزقاً هنيئاً بلا كلفة ولا تعب، ‏{‏وأنت خير الرازقين قال اللّه إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم‏}‏ أي فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها ‏{‏فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين‏}‏ أي من عالمي زمانكم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏}‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏إن المنافقين في الدرك الأسفل ممن النار‏}‏ وقد روى ابن جرير عن عبد اللّه بن عمرو قال‏:‏ إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة ثلاثة‏:‏ المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون

ذكر أخبار في نزول المائدة على الحواريين

قال أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس، أنه كان يحدث عن عيسى، أنه قال لبني إسرائيل‏:‏ هل لكم أن تصوموا للّه ثلاثنين يوماً ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم، فإن أجر العامل على من عمل له، ففعلوا، ثم قالوا‏:‏ يا معلم الخير قلت لنا‏:‏ إن أجر العامل على من عمل له، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلا أطعمنا حين نفرغ طعاماً، فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء‏؟‏ قال عيسى‏:‏ ‏{‏اتقوا الله إن كنتم مؤمنين* قالوا نريد أن نأكل منها تطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين* قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين* قال اللّه إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباص لا أعذذبه أحداً من العالمين‏}‏، قال‏:‏ فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء، عليها سبعة حيتان وسبعة أرغفه حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم‏.‏ كذا رواه ابن جرير، ورواه ابن ابي حاتم فذكر نحوه‏.‏ وقال ابن ابي حاتم عن ابن عباس‏:‏ أن عيسى بن مريم قالوا له‏:‏ ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء، قال‏:‏ فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها عليها سبعة حيتان وسبعة أرغفه، حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس، كما أكل منها أولهم‏.‏ وقال ابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ نزلت المائدة من السماء عليها خبز ولحم، وأمروا أن لا يخونوا، ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير‏.‏ وكل الآثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى بن مريم إجابة من اللّه لدعوته كما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم ‏{‏قال اللّه إني منزلها عليكم‏}‏ الآية‏.‏

وقال قائلون‏:‏ إنها لم تنزل، روي عن قتادة قال‏:‏ كان الحسن يقول‏:‏ لما قيل لهم ‏{‏فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين‏}‏ قالوا‏:‏ لا حاجة لنا فيها فلم تنزل، ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت، وهو الذي اختاره ابن جرير، لأن اللّه تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني منزلها عليكم فيمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين‏}‏، قال‏:‏ ووعد الله ووعيده حق وصدق، وههذا القول هو - والله أعلم - الصواب، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم‏.‏ وقد قال الإمام أحمد عن ابن عباس قال‏:‏ قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك، قال‏:‏ ‏(‏وتفعلون‏)‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ فدعا، فأتاه جبريل، فقال‏:‏ إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك‏:‏ إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏بل باب التوبة والرحمة‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وابن مردويه والحاكم في مستدركه‏"‏

 الآية رقم ‏(‏116 ‏:‏ 118‏)‏

‏{‏ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ‏.‏ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ‏.‏ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ‏}‏

هذا أيضاً مما يخاطب الله به عبده ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام قائلاً له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله ‏{‏يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله‏}‏ وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد، هكذا قاله قتادة وغيره، واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم‏}‏ وقال السدي‏:‏ هذا الخطاب والجواب في الدنيا، وصوبه ابن جرير، قال‏:‏ وكان ذلك حين رفعه إلى السماء‏.‏ واحتج ابن جرير على ذلك بمعنيين أحدهما ‏:‏ أن الكلام بلفظ المضي، والثاني قوله‏:‏ ‏{‏إن تعذبهم‏}‏ ‏{‏وإن تغفر لهم‏}‏ وهذان الدليلان فيهما نظر، لأن كثيراً من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي ليدل على الوقوع والثبوت‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك‏}‏ الآية‏.‏ التبري منهم ورد المشيئة فيهم إلى اللّه، وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه، كما في نظائر ذلك من الآيات، والذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر - واللّه أعلم - أن ذلك كائن يوم القيامة ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوتبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة‏.‏ وقد روي بذلك حديث مرفوع، ررواه الحافظ ابن عساكر عن أبي موسى الأشعري قال، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممهم، ثم يدعى بعيسى فيذكره اللّه نعمته عليه فيقر بها، فيقول ‏{‏يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك‏}‏ الآية، ثم يقول‏:‏ ‏{‏أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون اللّه‏}‏ فينكر أن يكون قال ذلك، فيؤتى بالنصارى فيسألون فيقولون‏:‏ نعم،هو أمرنا بذلك، قال‏:‏ فيطول شعر عيسى عليه السلام فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعرة من شعر رأسه وجسده، فيجاثيهم بين يدي اللّه عزَّ وجلَّ مقدار ألف عام حتى ترفع عليهم الحجة، ويرفع لهم الصليب، وينطلق بهم إلى النار‏)‏ ‏"‏رواه الحافظ ابن عساكر، وقال ابن كثير‏:‏ هذا حديث غريب عزيز‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق‏}‏، هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل، كما قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا ابن ابي عمر، حدثنا سفيان عن عمرو عن طاووس عن أبي هريرة قال‏:‏ يلقي عيسى حجته، ولقاه الله تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏وإذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله‏}‏، قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلقاه اللّه ‏{‏سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق‏}‏ إلى آخر الآية، وقد رواه الثوري عن معمر عن ابن طاووس عن طاووس بنحوه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن كنت قلتُه فقد علمتَه‏}‏ أي إن كان صدر مني هذا فقد علمته يا رب فإنه لا يخفى عليك شيء فما قلته ولا أردته في نفسي لا أضمرته، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب* ما قلت لهم إلا ما أمرتني به‏}‏ بإبلاغه ‏{‏أن اعبدوا اللّه ربي وربكم‏}‏ أي ما دعوتهم إلا إلى الذي أرسلتني به وأمرتين بإبلاغه ‏{‏أن اعبدوا الله ربي وربكم‏}‏ أي هذا هو الذي قلت لهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم‏}‏ أي كنت أشهد على أعمالهم حين كنت بين أظهرهم، ‏{‏فلما توفيتين كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد‏}‏‏.‏

قال أبو داود الطيالسي عن ابن عباس قال‏:‏ قام فينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال‏:‏ ‏(‏أيها الناس إنكم محشورون إلى اللّه عزَّ وجلَّ حفاة عراة غرلا ‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده‏}‏، وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول‏:‏ أصحابي، فيقال‏:‏ إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح ‏{‏وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد* إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ فيقال‏:‏ إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم‏)‏ ‏"‏رواه البخاري في التفسير عند هذه الآية‏:‏ ‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى اللّه عزَّ وجلَّ، فإنه الفعال لما يشاء الذي لا يسال عما يفعل وهم يسألون، ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على اللّه وعلى رسوله، وجعلوا للّه نداً وصاحبة وولداً، تعالى اللّه عما يقولون علواً كبيراً، وهذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها، قال الإمام أحمد عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال‏:‏ صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها ‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ فلما أصبح، قلت‏:‏ يا رسول اللّه ما زلت تقرأ هذه الآية حتى اصبحت تركع بها وتسجد بها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إني سالت ربي عز وجلَّ الشفاعة لأمتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء اللّه لمن لا يشرك باللّه شيئاً‏)‏ وقال ابن ابي حاتم عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول عيسى ‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ فرفع يديه فقال‏:‏ ‏(‏اللهم أمتي‏)‏ وبكى، فقال اللّه‏:‏ يا جبريل اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فاسأله ما يبكيه ‏!‏ فأتاه جبريل فساله فأخبره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال اللّه‏:‏ يا جبريل اذهب إلى محمد فقال‏:‏ إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك‏.‏ وقال الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان قال غاب عنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوماً فلم يخرج، حتى ظننا أن لن يخرج، فلما خرج سجد سجدة، ظننا أن نفسه قد قبضت فيها، فلما رفع رأسه قال‏:‏‏(‏ إن ربي عزَّ وجلَّ استشارني في أمتي ماذا أفعل بهم‏؟‏ فقلت‏:‏ ما شئت يا رب هم خلقك وعبادك، فاستشارني الثانية فقلت له‏:‏ كذلك، فقال لي‏:‏ لا أخزيك في أمتك يا محمد، وبشرني أن أول من يدخل الجنة من أمتي معي سبعون ألفاً مع كل ألف سبعون ألفاً ليس عليهم حسبا، ثم أرسل إليّ فقال‏:‏ ادع تجب وسل تعط، فقلت لرسوله‏:‏ أو معطي ربي سؤلي‏؟‏ فقال‏:‏ ما ارسلني إليك إلا ليعطيك، ولقد أعطاني ربي - ولا فخر - وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر‏.‏ وأنا أمشي حياً صحيحاً، وأعطاني أن لا تجوع أمتي ولا تغلب، وأعطاني الكوثر وهو نهر في الجنة يسيل في حوضي، وأعطاني العز، والنصر، والرعب يسعى بين يدي أمتي شهراً، وأعطاني أني أول الأنبياء يدخل الجنة، وطيب لي ولأمتي الغنيمة، وأحل لنا كثيراً مما شدد على من قبلنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج الحديث وإن كان ضعيف السند ففي أحاديث الشفاعة ما يؤيده ويؤكده

 الآية رقم ‏(‏119 ‏:‏ 120‏)‏

‏{‏ قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم ‏.‏ لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير ‏}‏

يقول تعالى مجيباً لعبده ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام فيما أنهاه إليه من التبري من النصارى الملحدين الكاذبين على اللّه وعلى رسوله، ومن رد المشيئة فيهم إلى ربه عزَّ وجلَّ فعند ذلك يقول تعالى‏:‏ ‏{‏هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يوم ينفع الموحدين توحيدهم ‏{‏لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً‏}‏ أي ماكثين فيهن لا يحولون ولا يزولون رضي الله عنهم ورضوا عنه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ورضوان من اللّه أكبر‏}‏ وسيأتي ما يتعلق بتلك الآية من الحديث، وروى ابن ابي حاتم عن أنس مرفوعاً قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيه‏:‏ ‏(‏ثم يتجلى لهم الرب جل جلاله فيقول‏:‏ سلوني سلوني أعطكم - قال - فيسألونه الرضا فيقول‏:‏ رضاي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي، فسلوني أعطكم فيسالونه الرضا - قال فيشهدهم أنه قد رضي عنهم‏.‏ سبحانه وتعالى‏)‏، ‏{‏ذلك الفوز العظيم‏}‏ أي هذا الفوز الكبير الذي لا أعظم منه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لمثل هذا فليعمل العاملون‏}‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏وفي ذلك فليتنافس المتنافسون‏}‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏للّه ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير‏}‏ أي هو الخالق للأشياء المالك لها، المتصرف فيها، القادر عليها، فالجميع ملكه وتحت قهره وقدرته وفي مشئيته، فلا نظير له ولا وزير ولا عديل ولا والد ولا ولد ولا صاحبة، ولا إلّه غيره ولا رب سواه‏.‏ قال ابن وهب‏:‏ آخر سورة أنزل سورة المائدة